Tuesday, May 23, 2017

الشفاعات الدنيوية في عصر النبوة - د. نورهان إبراهيم سلامة

المقدمة

  الشفاعة : هي السؤال في التجاوز عن الخطايا والذنوب والجرائم وتخفيف العقوبات وهي نوعان شفاعة في أمور الأخرة وهي شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين يوم القيامة ,والإيمان بها من اهم معتقدات أهل السنة والجماعة وفي معرفتها رداً على كثير من الفرق الإسلامية التي تنكر أمرها فصلاً عن تصحيح عقائد بعض العامة من المسلمين(1) , والنوع الآخر هو شفاعة في أمور الدنيا يقم بها الوسطاء وهي تنقسم إلى نوعين :                                            
الشفاعات الحسنة : هي  تلك الشفاعات التي تهدف إلى مراعاة حق المسلم ورد عنه كل ما هو شر وجلب كل ما هو خير وذلك إبتغاء مرضاة الله.                                               
الشفاعات السيئة : المقصود بها الغيبة والإساءة في القول بحق شخص آخر وهي في معصية الله , وتكون ابتغائاً لمال أو جاه(2).                                                                 
 وهناك بعض الأمور يختلط علينا الأمر فيها من شفاعة حسنة أم سيئة كما سنوضح في قصة سلمان الفارسى وأسقف الكنيسة وما آل إليه الأسقف من مصيروأتبعت المنهج التحليلي في دراسة هذا البحث من تحليل وإستنتاج المواقف وسبب قبولها أو رفضها . وتنوعت الشفاعات في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فمنها شفاعات هو تشفع لها وأحياناً كان هو المشفوع له ومشفوع عنده. وسنوضح ذلك في المواقف التي سيتم ذكرها . وعن أبي موسي الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم يحض الصحابة على بذل الشفاعة الحسنة ونفع الناس , لأنها من أعظم طرق الخير وكان إذا جاء إليه سائل يقول " اشفعوا تؤجروا , ويقضي الله على لسان نبيه ماشاء , متفق عليه(3)                                          .                                                                        
                                                              
___________________________________________
1- إبراهيم عبدالمنعم سلامة , الشفاعات الدنيوية في الأندلس منذ الفتح الإسلامي حتي نهاية عصر الدولة العامرية (92-339هـ /711-1009م) , ط.1 , دار المعرفة الجامعية , الإسكندرية , 2013 م ص13؛ مقبل بن هادي الوداعي , الشفاعة , ط.3 دار الآثار للنشر والتوزيع ,صنعاء , د.ت .
2- إبراهيم عبدالمنعم سلامة , نفسه , ص 13 .
3-  العسقلاني , فتح الباري بشرح صحيح البخاري , طبعة عبدالعزيز بن عبدالله وآخرون , دار المعرفة ,بيروت ,1960 م,ج3رقم 1432,ص299؛ إبراهيم عبدالمنعم سلامة , المرجع السابق, ص 14 .  

قصة بحيري الراهب والرسول صلى الله عليه وسلم

  ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في رحلة تجارية إلى الشام فرآه الراهب بحيري, وسأل أبي طالب عنه فقال له أهو ابنك فقال له نعم , فقال له كيف أنه به علامات لا يمكن أن يكون ولدك فقال له نعم انه ابن أخي فسأله الراهب عن ابويه فقال له أنهم متوفيان فتأكد الراهب بحيري أنه الرسول الذي تحدث عنه الإنجيل ووجد به خاتم النبوة فقال لأبي طالب إن هذا الغلام له شأن عظيم في قومه خذه وعد إلى بلدك مسرعاَ قبل أن يجده أحد ويؤذيه وما لبث أن يتحرك أبي طالب ومحمد إلا وقد عثر فيهم جماعة من الرهبان وأرادوا إيذائه صلى الله عليه وسلم ولكن تصدي لهم الراهب وذكرهم بما جاء به الإنجيل عن نبي يبعث فتراجعوا عنه(1) فأخذه أبي طالب مسرعاً إلى مكة, هنا تشفع الراهب بحيري شفاعة حسنة في حق المشفوع له وهو النبي صلى الله عليه وسلم عند الشفيع وهم الرهبان وقبلت الشفاعة بسبب أنهم أمنو بما أتي به الأنجيل كما أوضح لهم الراهب بحيري (2) .               

عتق زيد ابن حارثة  

  بعد زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها , أشترت له رضي الله عنها وأرضاها مملوكاً صغيراً عربياً من السوق يسمي زيداً , فكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحب الرق , فسألها رضي الله عنها أعتاقه فوهبته إليه صلى الله عليه وسلم فأعتقه وخيره إما أن يعود إلى أهله أو يبقي معه فأختار زيد البقاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلق عليه من قبل قريش زيد بن محمد على ما كانت عادتهم في ذلك الحين وعاب القرآن قريش في ذلك الأمر(3) , وهنا شفاعة حسنة لأن تشفع الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد عند زوجته خديجة رضي الله عنها على الرغم من أنها وهبته له ولكن تشفع له في عتقه منها وقبلت الشفاعة في قبول السيدة خديجة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لها الحق في الرفض أو القبول   .                                                                                                                         
____________________________________________________
1-يحي بن حمزة الوزنة السليماني ,  حياة النبي , ط.1,مكتبة الثقاقة الدينية , القاهرة , 2008 ,ص31-32.  
2- النجدي , محمد بن عبدالوهاب التميمي , مختصر سيرة الرسول ,ط.1,القاهرة ,1956, ص 15-16 ؛ المباركفوري ,صفي الرحمن , الرحيق المختوم بحث في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام,ط.1 ,دار إحياء التراث , الهند , د.ت,ص49 ,  -يحي بن حمزة الوزنة السليماني ,  حياة النبي , نفسه , ص 31-32 .
3- يحي بن حمزة الوزنة السليماني السليماني ,نفسه  ص44 .-

محاولة قريش في إرجاع النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه

  حاولت قريش مراراً أن ترجع النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه ولكنها بأت جميع محاولتها بالفشل , فحاولت إستدراجه من خلال عمه  ولكن عمه وقف بجانبه وصدهم عنه , وأقترب موعد الحج وقدوم الوفود , فما كان لقريش سوي أن تبعث أفراداً منها ليذيعوا بين الوفود بأن محمد كاذب وما هو إلا بساحر يفرق بين المرء وأبيه  وزوجه وعشيرته . فأخذوا يجلسون بالطرق فلا يمر  بهم أحد إلا وحذروه وشنعوا عليه ولكن أنقلبت عليهم الآية حيث قدم الوفود وهم سامعين بأمر النبي والدين الجديد ولديهم الرغبة في الدخول فيه فلم ينصتوا لما أوشت به قريش وذهبوا إلى الرسول مما ساعد على إنتشار الإسلام . هنا شفاعة سيئة  من قبل قريش الشفيع في حق المشفوع له الرسول عند المشفوع عنده وهم الوفود ولكنها لم تقبل بدليل دخول تلك الوفود في الإسلام (1).                                              .                                                                   

قريش تبذل للرسول أموالها لترده عن دينه إلى دينها

 لم تجدي نفعاً طرق الآذي التي تطرقت لها قريش فأخذت تبعث إليه عتبة بن ربيعة لعل وعسى أن يقدر يرده عن دينه , فذهب إليه عتبة وحاول معه بشتي الطرق وقال له إذا أردت المال سنعطيك ما أردت , وإذا أصابك جنون أو مرض نذهب بك الطبيب لتعفي , وفشلت محاولات عتبة مع الرسول  صلى الله عليه وسلم وقام الرسول صلى الله عليه وسلم بتلاوة بعض الآيات أمام عتبة وبعدما أنتهي عليه الصلاة والسلام قال لعتبة أسمعت به يا أبا الوليد فخرج عتبة ذاهباً إلى قريش يا معشر قريش لقد سمعت منه قولاً ما هو بسحر ولا سمعت به من قبل وماهو بشعر ولا بالكهانة فأطيعوني وامتنعوا عن هذا الرجل , هنا شفاعة حسنة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تشفع عتبة عند قومه له ومنعهم عن أذاه ولكن الشافعة لم تقبل لإنها لوقبلت حينها لما ظلت قريش مستمرة في آذي الرسول صلى الله عليه وسلم وصفحه عنهم  يوم فتح مكة على الرغم من أنهم أخرجوه من بلده (2)                                          .                                .
1- يحي بن حمزة الوزنة السليماني  , مرجع سابق , ص81
2-  يحي بن حمزة الوزنة السليماني , نفسه , ص 85-86.



عتق أبي بكرالصديق- رضي الله عنه- لبلال وعامر بن فهيرة

  صبر بلال ذلك العبد الأسود  لأمية بن خلف على عذاب أمية له , فكان يخرج به  فيضع الصخور على صدره , ويتركها حتي كاد بلال أن يموت فيرفعها أمية , ويقول بلال أحد أحد . فمر به أبو بكر رضي الله عنه فقال لأمية ألا تتقي الله فيه ! فقال أمية  أنت الذي أفسدته على فقال أبي بكر بايعنيه فباعه له أمية وأعتقه , وأعتق أيضاً عامر بن فهيرة  بستة رقاب على مثل ما حدث لبلال , فهنا قبلت الشفاعة بالمال في حق بلال وعامر عند أصحابهم  فالمال تشفع لهما وأنجاهم من العذاب (1)                                     .                                                                                                                                                          

من قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه                             

    عندما علم سيدنا عمر بن الخطاب عن ظهور دين الإسلام وبأمر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  قرر أن يذهب للرسول ليقتله وهو في طريقه إليه ليقتله لقيه نعيم بن عبد الله فسأله أين ذاهب ؟ فأجاب عمر رضي الله عنه أنه ذاهب لقتل محمد فقال له نعيم والله أنك غرتك نفسك يا عمر أفلا ترجع إلى بيتك فتقيم أمرهم , فقال عمر وأي أهل بيتي تقصد , فقال له نعيم أختك فاطمة وزوجها وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو , فرجع عمر غاضباً ودخل على أخته فأخفت مسرعة ما كانوا يتلونه من القرآن الكريم وهو قد سمعهم من الخارج فأشتد غيظه عندما أبت أن تعطيه ما تقرأ منه فلطمها لطمة شديدة مبرحة حتي سال الدم من وجهها وأصر على أمره فمكنته من ذلك بعدما أخذت الأمان منه بأن لا يمزقه  وأن يتطهر من الجنابة لأن القرآن لا يمسه إلا المطهرون  ففعل ما أمرت به فاطمة وعندما بدأ يقرأ بدء يرق قلبه لا سيما في تلك الآيات التي تحمل أسماء الله الحسني من سورة طه (2) فخرج له الخباب حيث أختبئ عندما علم بمجئ عمر فخرج عندما شعر بأنه رق وسأله عن مكان النبي فدله الخباب وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم .                                                                               


1- ابن هشام , ابن محمد عبدالملك بن هشام بن أيوب الحميري,ط.2, مكتبة ومطبعة مصطفي البابلي الحلبي , مصر ,1955,ص317-318؛
المباركفوري ,صفي الرحمن , الرحيق المختوم بحث في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام,ط.1 ,مصدرسابق ,  ص78-79.
2- ابن خلدون , عبدالرحمن ابن خلدون المقري ,كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر , أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من السلطان الأكبر ,دار الكتاب اللبناني,بيروت ,1977 ,م.1, ق.1,ص 724؛ إسماعيل حلمي , محمد قائد الأمم ,ط.1, الهيئة المصرية العامة للكتاب ,1997,ص87 ؛يحي بن حمزة الوزنة السليماني,مرجع سابق ,ص 76-77 .  

وأسلم وكبروا الناس له بالمسجد(1), من هذه الحادثة يتضح لنا إنها تبدو شفاعة سيئة في حق بيت فاطمة وزوجها وابن عمها والخباب لما لحق بفاطمة وبيتها من أذي فهنا أستجاب عمر للشفاعة عندما تأكد من أسلامهم , ومن ناحية آخري ترتب عليها إسلام عمر فمن الممكن القول إنها شفاعة سيئة حسنة                                                 .                                                                                 

  قصة سلمان الفارسي والأسقف

      كان سلمان رجلا من أهل فارس  من أصبهان , وكان رئيس قريته يدعي أبي دهقان يحبه كثيراً حباً لم يحبه لأولاده ولا لماله , ومن شدة حبه لسلمان حبسه في المنزل مثل الجارية وتعلم سلمان المجوسية  فأجادها حتي أصبح خازناً للنار التي يوقدها  , وأردا والده أن يساعده في أمر بنيان قد بناع وبيه ضيعة فخرج له سلمان وهو بطريقه مر بكنيسة وسأل ما هذا ؟ فدله عليها أهل المكان فدخل الكنسية  وسمع قول النصاري فعجبه  أمرهم   وظل بها حتي غروب الشمس . فبعث له والده وسأله عن سبب تأخيره فقص عليه سلمان ودار بينهم محادثة حول أمر النصاري ووصل الأب بعد محاولات من رد أبنه عن النصرانية إلى تكبيل سلمان بالحديد من قدميه حتي لا يرتد عن دين أبائه وأجداده وبعث سلمان للنصاري يتسأل أين أصل هذا الدين الذي أراكم عليه ؟ فقالو له بالشام , وسألهم الأمان من أي آذي يتعرض له وأعطوه الأمان فذهب إلي الشام وسأل من أفضل  أهل هذا الدين ؟ فأشاروا عليه بأسقف الكنيسة فذهب له وعمل معه حتي أكتشف أنه رجل سئ ويأمر الناس غصباً على الصدقات ليأخذها لنفسه ولا يعطيها للمساكين حتي جاء أجل هذا الأسقف فعندما حان دفنه قال سلمان للنصاري أنه كان رجل سوء يجبر الناس على الصدقة لياخذها لنفسه ويمنعها عن المساكين فطلبو من سلمان دليلاً على قوله فأخرج لهم المال والذهب الذي أكتنزه الأسقف , فثار النصاري وامتنعوا عن دفن الأسقف فصلبوه ورموه بالحجارة وجاءوا برجل جعلوه مكانه(2)  ,                           

1- ابن الجوزي , أبو الفرج عبدالرحمن , تاريخ عمربن الخطاب , مطبعة التوفيق الأدبية ,مصر ,د.ت, ص 10-11 .  
2- الذهبي , محمد بن أحمد بن عثمان , السيرة النبوية , ت. حسام الدين القديسي , ط.2  , دار الكتب العلمية , لبنان , 1927, ص 51-52


قد يحتمل الأمر شفاعة حسنة في حق النصاري  أنهم أستردوا الكنز وأعطوه لمن يستحق من فقراء ومساكين , وقد يحتمل شفاعة سيئة في حق الأسقف حتي وإن كان رجل سوء ولكن منع عنه الدفن وصلب ورجم وهذا مصير غير إنساني , ولكن الأرجح أنها حسنة لأن قصد الشفيع وهو سلمان في حق المشفوع عنده أي النصاري أن يبين لهم سوء هذا الرجل ويرجع لهم أموالهم ولم يكن يقصد إلحاق الآذي بجثة المشفوع له وهو الأسقف .  وهنا تمت الشفاعة من خلال إستجابة النصاري بعدما أثبت لهم سلمان قوله بالدليل وهو الكنز(1)                      .                                        

الأختلاف في أمر أسري بدر

    في غزوة بدر أسر المسلمين سبعين رجلاً من أهل قريش منهم أبطال ومنهم أفراد من قمم القبائل , فقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستشير الصحابة في أمرهم , فكان رأي أبي بكر أنهم قوم وأهل  الرسول صلى الله عليه وسلم فالأحق لهم أن يعفو عنهم ويستبقهم لعل الله يتوب عنهم   , وكان رأي عمر أنهم أخرجوه وكذبوه وهم أئمة الكفر أضربهم حتي  وطلب منه ان يمكنه منهم هو وعلى وعقيل والعباس ليضربوا أعناقهم , وقال عبدالله بن رواحة ان يضرموهم بالنار , وبعدما أنتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من سمعهم دخل بيته وأدرك أن الغالبية تميل إلى الأنتقام بسب معاناتهم من قريش في مكة وملاحقتها لهم في المدينة , ولكن كان جانب الرحمة في قلب الرسول  صلى الله عليه وسلم , فخرج للمسلمين وقال لأبي بكر : أنه مثله مثل إبراهيم حين قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنه غفور رحيم , واتجه صلى الله عليه وسلم إلى عمر ومؤيديه فقال : ما أنت ياعمر فمثلك مثل نوح حيث قال : رب لا تذر على  الأرض من الكافرين دياراً . وقبل الرسول الفداء من الأسرى على الرغم من معارضة عمر وابن رواحة . وهنا يتضح لنا أن الأمر أيضاً يختلط فيه شفاعة سيئة مثل شفاعة عمر وابن رواحة في حق الأسرى المشفوع لهم , وشفاعة حسنة مثل شفاعة أبى بكر الصديق في حقهم أيضاً وتمت الشفاعة بالقبول من قبل الشفيع وهو الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قبل شفاعة أبي بكر وساعد ذلك رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم فلولا سماحته ورجاحة عقله لأتخذ الشفاعة السيئة (2)                                                              .         __________________________________________________________
1- الذهبي , نفسه, ص 51-52
2- أحمد شلبي , موسوعة النظم والحضارة الإسلامية السياسة في الفكر الإسلامي , ط.5 , مكتبة النهضة المصرية , القاهرة , 1983 , ص 91-92 .  

حديث الظبية  

    كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصحراء فنادته ظبية تستنجد به فقال لها صلى الله عليه وسلم ما حاجتك ؟ قالت : صادني الأعرابي ولي خشفان أي أبناء في ذلك الجبل , فأطلقني لأذهب لهما أرضعهما وأرجع , فقال لها صلى الله عليه وسلم فقال أتفعلين ؟ قالت نعم . وكان الأعرابي نائماً فأطلقها صلى الله عليه وسلم فذهبت ورجعت , ففاق الأعرابي وانتبه لما حدث ورآي الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له ألك حاجة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم تطلق هذه الظبية فأطلقها الأعرابي , فذهبت الظبية وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وهنا نجد أن الشفاعة لاتشترط أن تكون في شخص بل أيضاً وقعت في الحيوانات فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم تشفع للظبية عند الأعرابي وقبل الأعرابي شفاعته صلى الله عليه وسلم قد يكون رحمة منه في حقها أو أحتراماً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تشفعه لها عنده (2).                                                                                                                                                                                                 

رسالته صلى الله عليه وسلم لكسرى

   كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى , وبعث الكتاب مع عبدالله بن حذافة السهمي , وقال فيه  "بسم الله الرحمن الرحيم , من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس , سلام على من أتبع الهدى , وآمن بالله ورسوله , وشهد أن لا إله إلا الله , وأنى رسول الله إلى الناس كافة , لينذر من كان حياً , أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس " . فمزق كسرى الرسالة , فقال رسول الله مزق ملكه . ثم كتب كسرى إلى باذان  وهو على اليمن أن يبعث إلى محمد بالحجاز رجلين ليحضروه  له في فارس وذهب إليه الرجلين وقال له أن يذهب معهما لكسرى فإن ذهب كتبوا فيه إلى ملك الملوك ينفعه ويكفوه عنه  وإن أبى فهو مهلكه ومهلك قومه فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتوه غداً , فأنزل الله عزوجل على رسوله يبشره بأن شيراويه سيقتل كسرى , وبالفعل قتله ليلة الثلاثاء 10 جمادى الأولى 7 هـ    .

______________________________________________
1- الشافعي ,وجيه الدين عبدالرحمن بن على بن محمد الشيباني,  حدائق الأنوار ومطالع الأسرارفي سيرة النبي المختار صلى الله عليه وسلم وعلى أله المصطفين الأخيار ,ت.عبدالله إبراهيم الانصاري ,ط.2, المكتبة الملكية , السعودية,1993,ج1 , ص 237

 وبعد مقتل كسرى بعث شيراويه لباذان يمنعه عن أذي  الرسول صلى الله عليه وسلم فبعث له قائلاً : انظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتي يأتيك أمري فيه " وعندما أنتهي كتاب شيراويه إلى باذان قال إن هذا الرجل لرسول فكف عنه ولم يبعث له أحد من رجاله ليؤذيه ودخل في الإسلام هو ومن مع من فارس باليمن . نجد هنا أن شيراويه منع الضرر برسول الله من خلال كتابه لباذان فكان من الممكن أن لا يصغي له باذان وينفذ أمر كسرى في محمد حتي بعد وفاة كسرى ولكنه تراجع بل وأسلم ومن معه فقبلت هنا الشفاعة (1) .

حادثة الإفك

  أتهمت السيدة عائشة رضي الله عنها بالإفك فإتهموها بصفوان بن المعطل السلمي , حيث إنهم لما دنوا من المدينة أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالرحيل وكان السيدة عائشة مضت لقضاء حاجتها وخرجت إلى رحالها فلمست صدرها ووجدت أن عقدها قد إنقطع فرجعت تبحث عنه , فكان الرهط الذين يحملون هودجها ظانين بأنها صعدت به فذهبوا عنها فعادت مكان الجيش ولم تجدهم فأغفلت عيناها وكان ابن صفوان يسير وراء الجيش يفقد ضائعه فأصبح عند منزلها فعرفها لأنه قد رآها من قبل الحجاب فأستيقظت عائشة بإسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها فإنزل لها راحلته دون أن يتكلما وذهب بها إلى حيث الجيش . وهو نازل للراحة فقامت قيامة أهل الإفك وقالوا ماقالو عنها وعن صفوان  والذي تولى كبر هذا الإفك عبدالله بن أبي ولما قدموا إلى المدينة مرضت عائشة ولم تكن تعلم من الأمر شيئاً حتي وجدت الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئن عليها ولكن ليس بتلك الرقة التي أعتادت عليها منه فبدأت تشعر أن بالأمر شئ فكان والديها يخفون عنها الأمر فعندما خرجت ومعها أم مسطح بن أثاثة وأخبرتها وكانت من أهل الإفك  , تفاجئت رضي الله عنها وبكت فقال رسول الله إذا فعلتي ذلك توبي إلى الله وإن كنتي بريئة سيبرئك الله تعالى فقالت عائشة يعلم الله برائتي وأنا أقل في أن ينزل الله آيات وأنزل الله آياته ليبرأ عائشة فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بجلد من صرح بالإفك ثمانين جلدة وهي حد القاذف وكانوا ثلاثة حمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت .                                                                                                  

1- الطبري , ابن جرير , السيرة النبوية , ت . جمال بدران , ط.1, الدار المصرية اللبنانية , القاهرة ,1994 , ص 260-261 .

  وكان أبي بكر ينفق على مسطح لقرابته فلما تكلم بالإفك قطع منه النفقة فأنزل الله " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربي واليتامي والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم "  فقال أبو بكر بلي نحب يارسول الله وأعاد النفقة لمسطح(1) ويتضح لنا مما سبق أن في أمر الإفك شفاعتان وفي الشفاعة الأولى شفاعة سيئة من قبل مسطح واهله في حق عائشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والشفاعة الحسنة عندما أنزل الله عز وجل فيها القرآن الكريم ليبرأها وطمان رسول الله لانه كان قد تغير معها في المعاملة بدلاً من الرقة واللين أخذ في الحديث معها لقلة ملحوظة حتي في مرضها كان يطمئن عليها من باب الغرفة , والشفاعة الآخري عندما انزل الله سبحانه وتعالى في نفقة مسطح لأبي بكر كي لا يقطعها عنه كما كان سيفعل فهنا تشفع الله فيه شفاعة حسنة كما تشفع لعائشة رضي الله عنها وأرضاها .                                                               

مكيدة قريش بمهاجري الحبشة

  لم يهدأ بال المشركين عندما علموا أن المهاجرون في إستقرار وأمان بالحبشة , فأختاروا رجلين لبيبين وهما عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة قبل أن يسلما وأرسلوا معهم الهدايا للنجاشي وبطارقته وبعد أعطائهم تلك الهدايا أخذوا بالوشاية للمسلمين عند النجاشي فاخبروه انهم غلمان تركوا دينهم واتوا بدين جديد لا يعرفوه ولا يعرفه النجاشي وقد بعثنا فيك أشرافهم لتردهم إلينا ولآبائهم وأجدادهم فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما هم عليه وعاتبوهم فيه , حاول البطارقة بإقناع النجاشي لأنهم أقتنعوا بكلام عمرو و عبدالله , ولكن النجاشي كان رجل عدل فلم يصدر امره إلا بعد التمحيص بالقضية فأحضر بالمسلمين واستمع لهم وصدقوا في قولهم وسألهم النجاشي عن دينهم فقال له جعفر بن أبي طالب وكان هو المتكلم عن المسلمين , وقال له انهم كانوا قوماً من الجاهلية يعبدون الأصنام ويأكلون الميتة ويأتون بالفواحش ويقطعون الأرحام حتي بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دعاهم لتوحيد الله وعبادته وصلة الرحم والبعد عن كل إثم وعدد عليه أمور الإسلام ولما لحقوا بنا الأذي خرجنا إلى بلاك وأخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك  , فقال له النجاشي هل لك من ما جاء به رسولك عن الله من شئ ؟                                                                                                      
______________________________________________
1- محمد طلعت حرب , تاريخ دول العرب والإسلام في تاريخ العرب وما كانوا عليه قبل الإسلام حتى دولة الخلفاء الراشدين  , ط.3 ,مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة ,2007 ,ص 300-304 

فقال له جعفر نعم فطلب منه النجاشي أن يقرأه عليه فقرأ عليه صدراً من( كهعيص ) فبكي النجاشي وأخضلت لحيته وبكي أساقفته فقال النجاشي إن هذا والذي جاء به عيسي ليخرج من مشكاة واحدة إنطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما فخرج عمرو مستحلفاً لهم وقال له ابي ربيعة أنهم من أرحامنا مهماً كانت مخالفتهم ولكن عاد عمرو بن العاص غداً وأوشي بهم عند النجاشي للمرة الثانية وقال له إنهم يقولون في عيسي بن مريم قولاً عظيماً فبعث النجاشي للمسلمين يسألهم عن قولهم عن المسيح فأجمعوا على الصدق وقال له جعفر نقول فيه الذي جائنا به نبيناً بالحق أنه عبدالله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها في  مريم العذراء البتول فقال النجاشي للمسلمين  أذهبوا فأنتم في أرضي شيوم أي أمنين وأمربطارقته برد الهدايا للمشركين وفشلت محاولة قريش بالزج بالمسلمين(1) ونجد في هذا الموقوف شفاعة سيئة من قبل عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة من محاولة إيقاعهم  بالمسلمين مرتين عند النجاشي وشفاعة حسنة عندما تشفع جعفر بن أبي طالب للمسلمين بالأدلة من القرآن الكريم مما جعل النجاشي يقبل الشفاعة ويرد  المشركين إلى عقر دارهم .                                                 








_________________________________________________________________________________
1- المباركفوري ,مصدر سابق , ص 83-86.



الخاتمة

توصلت من خلال دراسة البحث لعدة نتائج هامة حول الشفاعات الدنيوية في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم ومنها :                                                                                       
1- أن الشفاعات الدنيوية نوعين شفاعة حسنة وشفاعة سيئة وهناك بعض المواقف يختلط عليها الأمر تشمل شفاعة حسنة وشفاعة سيئة كما أوضحنا سابقاً مثل قصة سليمان الفارسي وأسقف  الكنيسة .                                                                                    
2- لم يكن في كل الشفاعات صلى الله عليه وسلم هو الشفيع بل كان أيضاً مشفوع له أو الشفيع عنده .                                                                                                
3-  لا يشترط أن  يكون المشفوع له بشرأ فقد يكون من الحيوانات مثل حديث الظبية  .      
4- لا يقتصر أمر الشفيع على البشر فقد يكون الشفيع الله سبحانه وتعالى بكتابه الشريف المنزل والإنجيل  للتشفع في أمور الدنيا أو مالاً مثل تشفع بحيرا الراهب في الرسول صلى الله عليه وسلم  وأبي بكر في بلال وعامر                                                           .                                                                          
5- بعض الشفاعات لم تكن تقبل وسعى أصحابها في إيجاد شفاعات سيئة ولكنهم فشلوا للمرة الثانية  مثل مكيدة عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة في المهاجرين .                
6- كان صلى الله عليه وسلم يستشير الصحابة في أمر الآسرى ليفتح باب التشفع لهم على الرغم بأنه قادر على أخذ القرار ولكنها رحمة وعدالة منه صلى الله عليه وسلم .                                                        




No comments:

Post a Comment

عطايا ومنح الأمراء والخلفاء الأمويين بالأندلس للمغنين بقلم: د. نورهان إبراهيم سلامة

  كان الأمويون شغوفين بالغناء والموسيقى وكان منهم إما من المشاركين فيه أو ممن كانوا يشجعون مثل هذا الفن والمغنين والموسيقيين ، فكانوا يغدقون...