الفقه المالكي :
بعد وفاة الرسول – صلي الله عليه وسلم - لم يختلف المسلمون علي وجوب جعل السنة مصدر من
مصادر التشريع ، ولكن صادفتهم مشكلة أنها لم تكن مدونة ، كان من الممكن أن تدون السنة النبوية بعد وفاة
النبي ولكن الصحابة كانوا يكرهون التدوين للنهي الوارد في ذلك ، ولم يحدث تدوين
للسنة طوال القرن الأول الهجري ، فكانت السنة النبوية عبارة عن مجموعة أخبار
متواترة موجودة مع صحابة النبي متوافرة مع البعض ، وغير متوافرة مع البعض الأخر . [1]
ولقد قام الأمام مالك بتأليف كتاب الموطأ الذي يعتبر من
أقدم ما دون في الحديث ، ولقد ألفه الأمام وتوخي فيه القوي من أحاديث أهل الحجاز ،
ومزجه بأقوال الصحابة والتابعين من بعدهم ، ولقد وضع مالك الكتاب في نحو عشرة ألاف
حديث ، فلم يزل ينظر فيه في كل سنة ، يسقط منه ، حتي بقي هذا [2]
وكان ممن جمع الأحاديث الفقهاء أصحاب رسول الله الذين
أخذوا العلم عنه ، وعلموا أسباب نزول الأوامر والنواهي ، ووظائف الشرائع ، ومخارج
كلامه عليه السلام ، وشاهدوا قرائن ذلك ، وشافهوا
في أكثرها النبي عليه
السلام ، وأستفسروه عنها ، مع ما كانوا عليه من سعة العلم ومعرفة معاني الكلمات ،
ولكنهم لم يتكلموا من النوازل إلا في اليسير مما وقع ، ولا تفرعت عنهم المسائل ،
ولا تكلموا من الشرع إلا في قواعد ووقائع . [3]
فكان منهم { مالك بن أنس بالمدينة – أبو
حنيفة والثوري بالكوفة – الحسن البصري بالبصرة علي ما تقدم منه – الأوزاعي بالشام –
والشافعي بمصر – وأحمد بن حنبل بغداد ، وكان لأبي ثورٍ هناك أيضاً اتباع } [4]
يعتمد منهج الأمام مالك علي رواية الحديث فهو دعامته
الأساسية في فقهه ، وكان دائماً ما يبغض البدع ويحرص عل أتباع السنن فقال فيه الفقيه القاضي رضي الله عنه : كان
مالك كثيراً ما يتمثل :
وخير أمور الدين ما كان
سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
وقال ابن حنبل:
إذا رأيت رجل يبغض مالكا فأعلم أنه مبتدع
. وقال أبو داود : اخشي عليك البدعة . وقال بن مهدي : إذا رأيت الحجازي يحب
مالك بن أنس ، فاعلم أنه صاحب سنة ، وإذا رأيت أحد يتناوله ، فاعلم أنه علي خلاف [5]
قال سفيان بن عيينه : سأل رجل مالكا فقال { الرحمن علي
العرش أستوي } [6]
، كيف أستوي يا أبا عبد الله ؟ فسكت مالك ملياً حتي علاه الرحضاء ، وما رأينا
مالكاً وجد من شئ وجده من مقالته ، وجعل الناس ينظرون ما يأمر به ، ثم سري عنه
فقال : الأستواء منه معلوم ، والكيف منه غير معقول ، والسؤال عن هذا بدعة ،
والإيمان به واجب ، وإني لأظنك ضالاً ، أخرجوه !
فناداه الرجل : يا أبا عبد الله ، والله الذي لا إله إلا
هو ، لقد سألت عن هذه المسأله أهل البصرة والكوفة والعراق ولم أجد أحداً وفق لما
وفقت له . [7]
وفي كره المجادلة والمناظرة ويقول مالك " أرأيت إن
جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم
لدين جديد " [8]
وكان الأمام دائماً ما يأمر بأصلاح اللحن والبعد عن
الخطأ في الحديث ، وتتبع ألفاظه ومعانيه ومحاولة فهمهم فلقد أخبرنا خلف بن احمد
(وعبد الرحمن بن يحيي) قالا : نا أحمد بن سعيد ، نا سعيد بن عثمان ، نا محمد بن
عبد الله بن عبد الحكم ، ثنا أشهب قال " سألت مالكاً – رحمه الله – عن
الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعني واحد ، قال : أما ما كان في قول النبي فلا أري
بذلك بأساً ، قلت : حديث النبي يزداد فيه الواو والألف والمعني واحد . قال : أرجو
أن يكون هذا خفيفاً " [9]
وبما أن عمل الفقه هو إصدار الأحكام علي الأعمال
والأشياء بالحرمة أو الأباحة ، ففي بيع الرقيق قال مالك: " لا ينبغي أن يستثني جنين في بطن أمه إذا
بيعت ، لأن ذلك غرر ، لا يُدري أذكر هو ام أنثي ، أحسن ام قبيح ، أو ناقص أو تام ،
او حي أو ميت ، وذلك يضع من ثمنها " [10] وقال : وإنما نهي سعيد بن المسيب ، وسليمان بن
يسار ، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابن شهاب ، عن أن لا يبيع الرجل حنطة
بذهب ، ثم يشتري الرجل بالذهب تمراً . قبل أن يقبض الذهب من بيعه الذي أشتري منه
الحنطة . فإما أن يشتري بالذهب الذي باع بها الحنطة ، إلي أجلٍ تمر من غير بائعهِ
الذي باع منه الحنطة ، قبل أن يقبض الذهب ويحيل الذي أشتري منه التمر علي غريمه
الذي باع منه الحنطة . بالذهب الذي عليه في ثمن التمر . فلا بأس بذلك . قال مالك :
وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم ، فلم يروا به بأساً [11]
نري هنا ان الأمام كان يستخدم أصطلاحات معينة مثل (لا
ينبغي) وقوله في مواضع أخري في كتابه الموطأ ، فهذا مكروه ، لا يصلح ، وقوله ..
فلا خير فيه ، وقوله لا بأس أو لا أري بأس والكثير من ذلك . [12]
وعلي الرغم من أن عامة المسلمين كانوا يستشفوا الحلال
والحرام ممن يتصدرون الفُتيا ، إلا أن الأمام مالك كان يقول : إنما أنا بشرٌ أخطئ
وأصيب ، فأنظروا في رأيي ، فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكلما لم يوافق
الكتاب والسنة فاتركوه . [13]
وكما أوضح لنا الفقه المالكي الأحكام الفقهيه المختلفة
في البيوع وغيرها ، لاحظنا كيف أن الموطأ يفسر لنا عمل من الأعمال الفطرية التي لم
نستغني عنها في حياتنا ، وهو ما يُتخذ مع الميت ، ولقد تحدث عنه الأمام في كتاب
(الجنائز) فيذكر لنا ما فعله النبي حين توفيت أبنته فيقول " وحدثني عن مالك ،
عن أيوب بن أبي تميمة السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أم عطية الأنصارية ؛ قالت
: دخل عليا رسول الله – صلي الله عليه وسلم – حين توفيت أبنته فقال : ( أغسلنها
ثلاثا ، أو خمساً أو أكثر من ذلك ، إذا رأيتن ذلك ، بماء وسدر ، وأجعلن في الأخرة
كافوراً أو شئ من كافور . فإذا فرغتن فآذنني ) قالت : فلما فرغنا أذناه ، فأعطانا
حقوه فقال ( أشعرنها إياه ) ، تعني بحقوة أزاره . [14]
وحدثني عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ؛ أن اسماء بن
عميس غسلت أبا بكر الصديق ، حين توفي . ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين .
فقالت : إني صائمة وإن هذاا يوم شديد البرد ، فهل عليا من غسل ؟ فقالوا: لا .
وحدثني عن مالك
؛ أنه سمع اهل العلم يقولون : إذا ماتت المرأة ، وليس معها نساء يُغسلنها ، ولا من
ذوي المحرم أحد بلي ذلك منها ، ولا زوج بلي ذلك منها ، يُممت فمُسح بوجهها وكفيها
من الصعيد .
وقال مالك : وإذا هلك الرجل ، وليس معه أحد ، إلا نساء ،
يممنه أيضاً .
قال مالك : ليس لغسل الميت عندنا شئ موصوف وليس لذلك صفة
معلومة ، ولكن يُغسَّل فيُطهَّر . [15]
كان الأمام مالك من أشد الأئمة في أقامة حدود الله فلقد
قال عبد الجبار بن عمر : حضرت مالكاً وقد أحضره الوالي في جماعة من أهل العلم ،
فسألهم عن رجل عدا علي أخيه حتي إذا أدركه دفعه في بئر وأخذ رداءه ، وابو الغلامين
حاضران ، فقال جماعه من العلماء : الخيار للأبويين في العفو أو القصاص ، فقال مالك
: أري أن تضرب عنقه الساعه ، فقال الأبوان : أيقتل أبننا بالأمس ونفجع في الأخر اليوم ؟ ونحن أولياء
الدم ، وقد عفونا ! فقال الوالي : يا أبا عبد الله ! ليس ثم طالب غيرهم وقد عفوا .
فقال مالك : والله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت في العلم أبداً أو تضرب عنقه . وسكت
، وكلم فلم يتكلم ، فارتجت المدينة وصاح الناس : إذا سكت مالك من نسأل ومن يجيب ؟
وكثر اللغط وقالوا : لا أحد بمصر من الأمصار مثله ، ولا يقوم مقامه في العلم و
الفضل . فلما رأي الوالي عزمه علي السكوت
، قدم الغلام فضربت عنقه ، فلما سقط رأسه ألتفت مالك إلي من حضر وقال : انما قتلته
بالحرابه حين أخذ ثوب أخيه ، ولم أقتله قوداً وقد عفا أبواه . وأنصرف الناس وقد
طابت نفوسهم حين رأوه بر في يمينه ، إذ كان يعلم انه لا يحنث . [16]
ولم يكن الموطأ فقط هو ما ألفه الأمام رغم أنه الأشهر ،
ولكن له مؤلفات عدة نذكر منها رسالته إلي بن وهب في القدر والرد علي القدرية وهو
من خيار الكتب الدال علي سعة علمه بهذا الشأن رحمه الله . [17] وأيضاً هناك كتابه في النجوم وحساب
مدار الزمن ومنازل القمر وهو كتاب جيد ومفيد جداً ، ولقد أعتمد عليه الناس في
هذا الباب وجعلوه أصلاً . وعليه أعتمد أبو محمد عبد الله بن مسرور القروي في
تأليفه في هذا الباب وصدر بفصوله . [18]
وأيضاً هناك رساله مالك في الأقضيه كتب بها لبعض القضاة في عشرة أجزاء ،
اخبرنا بها الفقيه أبو اسحق بن جعفر ، عن بن سهل ، عن حاتم بن محمد ، عن ابن دينار
، عن أبي جعفر بن رحمون ، عن سعيد بن شعبان ، عن محمد بن يوسف بن مطروح ، عن عبد
الله بن عبد الجليل مؤدب مالك بن أنس . ومن مؤلفاته نذكر أيضاً رسالته إلي أبي
غسان محمد بن مطرف في الفتوي وهي مشهورة ، ويرويها عنه خالد بن نزار ، محمد بن
مطرف ، وهو ثقة من كبار أهل المدينة ، قرينا لمالك ،يروي عن أبي حازم وزيد بن أسلم
، وروي عنه الثقات ووثقوه . ولقد نقل إسحق بن سعيد أقوال مالك في هذه الرساله منها
في كتابه . ومن مؤلفاته أيضاً رسالته
إلي هارون الرشيد المشهورة في الأداب والمواعظ حدث بها في الأندلس أولاً بن
حبيب ، عن رجاله ، عن مالك ، وحدث بها أخر أبو جعفر بن عون الله ، والقاضي أبو عبد
الله بن مفرج ، عن احمد بن زيدويه الدمشقي ، ولم يرفع السند . [19] وهناك
أيضاً كتابه في التفسير لغريب القرأن الذي يرويه عنه خالد بن عبد الرحمن
المخزومي . [20]
ولقد نسب إلي مالك كتاب أيضاً يسمي كتاب السر من رواية بن القاسم عنه .
وأخر ما نذكر في مؤلفاته رسالته إلي الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة . [21]
[1] محمد فاروق النبهان ، أثر الأمام مالك في
تدعيم السنة النبوية في المنهج الفقهي العام ، مجلة دار الحديث الحسنية (المغرب) ،
ع 4 ، 1984 م ، ص 149 .
No comments:
Post a Comment