Wednesday, May 24, 2017

في الفقه المالكي - هبه حافظ

الفقه المالكي :
بعد وفاة الرسول – صلي الله عليه وسلم -  لم يختلف المسلمون علي وجوب جعل السنة مصدر من مصادر التشريع ، ولكن صادفتهم مشكلة أنها لم تكن مدونة  ، كان من الممكن أن تدون السنة النبوية بعد وفاة النبي ولكن الصحابة كانوا يكرهون التدوين للنهي الوارد في ذلك ، ولم يحدث تدوين للسنة طوال القرن الأول الهجري ، فكانت السنة النبوية عبارة عن مجموعة أخبار متواترة موجودة مع صحابة النبي متوافرة مع البعض ، وغير متوافرة مع البعض الأخر . [1]
ولقد قام الأمام مالك بتأليف كتاب الموطأ الذي يعتبر من أقدم ما دون في الحديث ، ولقد ألفه الأمام وتوخي فيه القوي من أحاديث أهل الحجاز ، ومزجه بأقوال الصحابة والتابعين من بعدهم ، ولقد وضع مالك الكتاب في نحو عشرة ألاف حديث ، فلم يزل ينظر فيه في كل سنة ، يسقط منه ، حتي بقي هذا [2]  
وكان ممن جمع الأحاديث الفقهاء أصحاب رسول الله الذين أخذوا العلم عنه ، وعلموا أسباب نزول الأوامر والنواهي ، ووظائف الشرائع ، ومخارج كلامه عليه السلام ، وشاهدوا قرائن ذلك ، وشافهوا  في أكثرها            النبي عليه السلام ، وأستفسروه عنها ، مع ما كانوا عليه من سعة العلم ومعرفة معاني الكلمات ، ولكنهم لم يتكلموا من النوازل إلا في اليسير مما وقع ، ولا تفرعت عنهم المسائل ، ولا تكلموا من الشرع إلا في قواعد ووقائع . [3] فكان منهم  { مالك بن أنس بالمدينة – أبو حنيفة والثوري بالكوفة – الحسن البصري بالبصرة علي ما تقدم منه – الأوزاعي بالشام – والشافعي بمصر – وأحمد بن حنبل بغداد ، وكان لأبي ثورٍ هناك أيضاً اتباع } [4]
يعتمد منهج الأمام مالك علي رواية الحديث فهو دعامته الأساسية في فقهه ، وكان دائماً ما يبغض البدع ويحرص عل أتباع السنن  فقال فيه الفقيه القاضي رضي الله عنه : كان مالك كثيراً ما يتمثل :
وخير أمور الدين ما كان سنة      وشر الأمور المحدثات البدائع
وقال ابن حنبل:  إذا رأيت رجل يبغض مالكا فأعلم أنه مبتدع  . وقال أبو داود : اخشي عليك البدعة . وقال بن مهدي : إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس ، فاعلم أنه صاحب سنة ، وإذا رأيت أحد يتناوله ، فاعلم أنه علي خلاف [5]
قال سفيان بن عيينه : سأل رجل مالكا فقال { الرحمن علي العرش أستوي } [6] ، كيف أستوي يا أبا عبد الله ؟ فسكت مالك ملياً حتي علاه الرحضاء ، وما رأينا مالكاً وجد من شئ وجده من مقالته ، وجعل الناس ينظرون ما يأمر به ، ثم سري عنه فقال : الأستواء منه معلوم ، والكيف منه غير معقول ، والسؤال عن هذا بدعة ، والإيمان به واجب ، وإني لأظنك ضالاً ، أخرجوه !
فناداه الرجل : يا أبا عبد الله ، والله الذي لا إله إلا هو ، لقد سألت عن هذه المسأله أهل البصرة والكوفة والعراق ولم أجد أحداً وفق لما وفقت له . [7]
وفي كره المجادلة والمناظرة ويقول مالك " أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع  دينه كل يوم لدين جديد " [8]
وكان الأمام دائماً ما يأمر بأصلاح اللحن والبعد عن الخطأ في الحديث ، وتتبع ألفاظه ومعانيه ومحاولة فهمهم فلقد أخبرنا خلف بن احمد (وعبد الرحمن بن يحيي) قالا : نا أحمد بن سعيد ، نا سعيد بن عثمان ، نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، ثنا أشهب قال " سألت مالكاً – رحمه الله – عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعني واحد ، قال : أما ما كان في قول النبي فلا أري بذلك بأساً ، قلت : حديث النبي يزداد فيه الواو والألف والمعني واحد . قال : أرجو أن يكون هذا خفيفاً " [9]
وبما أن عمل الفقه هو إصدار الأحكام علي الأعمال والأشياء بالحرمة أو الأباحة ، ففي بيع الرقيق قال مالك:  " لا ينبغي أن يستثني جنين في بطن أمه إذا بيعت ، لأن ذلك غرر ، لا يُدري أذكر هو ام أنثي ، أحسن ام قبيح ، أو ناقص أو تام ، او حي أو ميت ، وذلك يضع من ثمنها " [10]  وقال : وإنما نهي سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابن شهاب ، عن أن لا يبيع الرجل حنطة بذهب ، ثم يشتري الرجل بالذهب تمراً . قبل أن يقبض الذهب من بيعه الذي أشتري منه الحنطة . فإما أن يشتري بالذهب الذي باع بها الحنطة ، إلي أجلٍ تمر من غير بائعهِ الذي باع منه الحنطة ، قبل أن يقبض الذهب ويحيل الذي أشتري منه التمر علي غريمه الذي باع منه الحنطة . بالذهب الذي عليه في ثمن التمر . فلا بأس بذلك . قال مالك : وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم ، فلم يروا به بأساً [11]
نري هنا ان الأمام كان يستخدم أصطلاحات معينة مثل (لا ينبغي) وقوله في مواضع أخري في كتابه الموطأ ، فهذا مكروه ، لا يصلح ، وقوله .. فلا خير فيه ، وقوله لا بأس أو لا أري بأس والكثير من ذلك . [12]
وعلي الرغم من أن عامة المسلمين كانوا يستشفوا الحلال والحرام ممن يتصدرون الفُتيا ، إلا أن الأمام مالك كان يقول : إنما أنا بشرٌ أخطئ وأصيب ، فأنظروا في رأيي ، فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكلما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه . [13]
وكما أوضح لنا الفقه المالكي الأحكام الفقهيه المختلفة في البيوع وغيرها ، لاحظنا كيف أن الموطأ يفسر لنا عمل من الأعمال الفطرية التي لم نستغني عنها في حياتنا ، وهو ما يُتخذ مع الميت ، ولقد تحدث عنه الأمام في كتاب (الجنائز) فيذكر لنا ما فعله النبي حين توفيت أبنته فيقول " وحدثني عن مالك ، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أم عطية الأنصارية ؛ قالت : دخل عليا رسول الله – صلي الله عليه وسلم – حين توفيت أبنته فقال : ( أغسلنها ثلاثا ، أو خمساً أو أكثر من ذلك ، إذا رأيتن ذلك ، بماء وسدر ، وأجعلن في الأخرة كافوراً أو شئ من كافور . فإذا فرغتن فآذنني ) قالت : فلما فرغنا أذناه ، فأعطانا حقوه فقال ( أشعرنها إياه ) ، تعني بحقوة أزاره . [14]
وحدثني عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ؛ أن اسماء بن عميس غسلت أبا بكر الصديق ، حين توفي . ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين . فقالت : إني صائمة وإن هذاا يوم شديد البرد ، فهل عليا من غسل ؟ فقالوا:  لا .
وحدثني عن  مالك ؛ أنه سمع اهل العلم يقولون : إذا ماتت المرأة ، وليس معها نساء يُغسلنها ، ولا من ذوي المحرم أحد بلي ذلك منها ، ولا زوج بلي ذلك منها ، يُممت فمُسح بوجهها وكفيها من الصعيد .
وقال مالك : وإذا هلك الرجل ، وليس معه أحد ، إلا نساء ، يممنه أيضاً .
قال مالك : ليس لغسل الميت عندنا شئ موصوف وليس لذلك صفة معلومة ، ولكن يُغسَّل فيُطهَّر . [15]
كان الأمام مالك من أشد الأئمة في أقامة حدود الله فلقد قال عبد الجبار بن عمر : حضرت مالكاً وقد أحضره الوالي في جماعة من أهل العلم ، فسألهم عن رجل عدا علي أخيه حتي إذا أدركه دفعه في بئر وأخذ رداءه ، وابو الغلامين حاضران ، فقال جماعه من العلماء : الخيار للأبويين في العفو أو القصاص ، فقال مالك : أري أن تضرب عنقه الساعه ، فقال الأبوان : أيقتل أبننا  بالأمس ونفجع في الأخر اليوم ؟ ونحن أولياء الدم ، وقد عفونا ! فقال الوالي : يا أبا عبد الله ! ليس ثم طالب غيرهم وقد عفوا . فقال مالك : والله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت في العلم أبداً أو تضرب عنقه . وسكت ، وكلم فلم يتكلم ، فارتجت المدينة وصاح الناس : إذا سكت مالك من نسأل ومن يجيب ؟ وكثر اللغط وقالوا : لا أحد بمصر من الأمصار مثله ، ولا يقوم مقامه في العلم و الفضل .  فلما رأي الوالي عزمه علي السكوت ، قدم الغلام فضربت عنقه ، فلما سقط رأسه ألتفت مالك إلي من حضر وقال : انما قتلته بالحرابه حين أخذ ثوب أخيه ، ولم أقتله قوداً وقد عفا أبواه . وأنصرف الناس وقد طابت نفوسهم حين رأوه بر في يمينه ، إذ كان يعلم انه لا يحنث . [16]
ولم يكن الموطأ فقط هو ما ألفه الأمام رغم أنه الأشهر ، ولكن له مؤلفات عدة نذكر منها رسالته إلي بن وهب في القدر والرد علي القدرية وهو من خيار الكتب الدال علي سعة علمه بهذا الشأن رحمه الله . [17]          وأيضاً هناك كتابه في النجوم وحساب مدار الزمن ومنازل القمر وهو كتاب جيد ومفيد جداً ، ولقد أعتمد عليه الناس في هذا الباب وجعلوه أصلاً . وعليه أعتمد أبو محمد عبد الله بن مسرور القروي في تأليفه في هذا الباب وصدر بفصوله . [18] وأيضاً هناك رساله مالك في الأقضيه كتب بها لبعض القضاة في عشرة أجزاء ، اخبرنا بها الفقيه أبو اسحق بن جعفر ، عن بن سهل ، عن حاتم بن محمد ، عن ابن دينار ، عن أبي جعفر بن رحمون ، عن سعيد بن شعبان ، عن محمد بن يوسف بن مطروح ، عن عبد الله بن عبد الجليل مؤدب مالك بن أنس . ومن مؤلفاته نذكر أيضاً رسالته إلي أبي غسان محمد بن مطرف في الفتوي وهي مشهورة ، ويرويها عنه خالد بن نزار ، محمد بن مطرف ، وهو ثقة من كبار أهل المدينة ، قرينا لمالك ،يروي عن أبي حازم وزيد بن أسلم ، وروي عنه الثقات ووثقوه . ولقد نقل إسحق بن سعيد أقوال مالك في هذه الرساله منها في كتابه .     ومن مؤلفاته أيضاً رسالته إلي هارون الرشيد المشهورة في الأداب والمواعظ حدث بها في الأندلس أولاً بن حبيب ، عن رجاله ، عن مالك ، وحدث بها أخر أبو جعفر بن عون الله ، والقاضي أبو عبد الله بن مفرج ، عن احمد بن زيدويه الدمشقي ، ولم يرفع السند . [19] وهناك أيضاً كتابه في التفسير لغريب القرأن الذي يرويه عنه خالد بن عبد الرحمن المخزومي . [20] ولقد نسب إلي مالك كتاب أيضاً يسمي كتاب السر من رواية بن القاسم عنه . وأخر ما نذكر في مؤلفاته رسالته إلي الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة . [21]



[1] محمد فاروق النبهان ، أثر الأمام مالك في تدعيم السنة النبوية في المنهج الفقهي العام ، مجلة دار الحديث الحسنية (المغرب) ، ع 4 ، 1984 م ، ص 149 .
[2] مالك بن أنس ، الموطأ ، دار إحياء التراث العربي – بيروت لبنان ،1406 هـ / 1985 م ، ج 1 ، ص (د)  .
[3] القاضي عياض ، ترتيب المدارك ، ج 1 ، ص 61 .
[4] المصدر السابق ، ص 64 .
[5] المصدر السابق ، ج 2 ، ص 38 .
[6] القرأن الكريم ، سورة طه ، الأية 4 .
[7] القاضي عياض ، المصدر السابق ، ص 39 .
[8] بن عبد البر ، جامع بيان العلم وفضله ، ج 2 ، ص 942 .
[9] المصدر السابق ، ج 1 ، ص 350 .
[10] مالك ، الموطأ ، ج 2 ، ص 610 .
[11] المصدر السابق ، ص 643 .
[12] فكري ،  المرجع السابق ، ص 681 .
[13] بن عبد البر ، المصدر السابق ، ج 1 ، ص 775 .
[14] مالك ، الموطأ ، ج 1 ، ص 222 .
[15] المصدر السابق ، ص 223 .
[16] القاضي عياض ، ترتيب المدارك ، ج 2 ، ص 58 – 59 .
[17] المصدر السابق ، ص 90 .
[18] المصدر السابق ، ص 91 .
[19] المصدر السابق ، ص 92 .
[20] المصدر السابق ، ص 93 .
[21] المصدر السابق ، ص 94 . 

No comments:

Post a Comment

عطايا ومنح الأمراء والخلفاء الأمويين بالأندلس للمغنين بقلم: د. نورهان إبراهيم سلامة

  كان الأمويون شغوفين بالغناء والموسيقى وكان منهم إما من المشاركين فيه أو ممن كانوا يشجعون مثل هذا الفن والمغنين والموسيقيين ، فكانوا يغدقون...